صورة
الهيكل العظمي ودوره في بناء الإنسان

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وصوره فأحسن تصويره، وجعل له عينين ولساناً وشفتين، وخلق لحمه وعظمه في مراحل الخلق الأخيرة، وتناول القرآن الكريم خلق العظام وبناءها وشدتها ومن ثم وهنها وضعفها ونخرها ثم إعادة تكوينها يوم الدين في 13 آية. والعظام تتكون من 208 عظمة مختلفة الأوزان والوظائف وقوى الشد والتحمل، ومنها 50 عظمة في اليدين، و20 في الرجلين، وهي من معجزات الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه.

ويمكن لنا أن نجمل هذا الإعجاز تحت العنوانين الرئيسين الآتيين:

أولاً: دعوة الخالق جل وعلا الناسَ إلى التفكر في خلق العظام وبديع صنعه فيها.

إن من عظم خلق الله أنه صهر كثيرًا من المعاني والدلالات في خلق الجهاز العظمي، فهو أساس قوام الإنسان؛ ولولاه لكان الإنسان كومة من الجلد واللحم، وجعل فيها صلابة متينة ووقاية حانية في نفس الوقت، كيف لا وقد حفظ الدماغ في كرة عظمية وهي الجمجمة، واحتضنت الأضلاع القلب والرئتين، وصدت عظام الحوض جوانب الرحم، وسار الحبل الشوكي بأمان داخل محتوى العمود الفقري ضمن فتحات غاية في الدقة، وانطلقت مصانع الخلايا الأولية المكونة لكل خلايا الجسم ضمن قنوات العظام الداخلية. قال تعالى: " هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ " [لقمان: 11].

ولقد خلق الله تعالى العظام بطريقة تؤدي إلى أعلى كفاءة ممكنة وبأقل وزن ممكن، فجعلها مجوفة تحوي نخاعاً دموياً ودهنياً تصنع فيه كل خلايا الجسم، ويحتوي على دورة دموية باتجاهين متعاكسين حيث يتخلل العظم شريان دقيق لا يتجاوز ميليمتراً واحداً، ينقل دماء العضلات المحيطة إلى داخل نخاع العظم أو بالعكس.

ومن مظاهر هذا الإبداع في خلق العظام أن جعل فيه نظاماً كاملاً ومتناسقاً بين خلايا العظم البناءة (Osteoblast) وخلايا العظم الأكولة / الهدامة (Osteoclast)  ينتظم عمل كل منهما تبعاً لتأثيرات هرمونية محددة تفرز في أوقات عمرية محددة، ولو اختل عملها لوجدت أمراضاً مثل العملقة والتقزم التي نراها في حالات نادرة. وإن تلك الخلايا تتفاعل ضمن قوى (الضغط الميكانيكي) التي تمارسه العضلات أثناء حركتها انبساطاً وانقباضاً حول المفاصل الرابطة بين العظمتين وطبقاً لانحناءات العظم، فأينما يوجد تجويف داخلي يكثر وجود الخلايا البناءة، وأينما يوجد سطح محدب فستجد الخلايا الهدامة أكثر حفاظاً على متانة العظم ومنعاً لكسره، وأخيراً تتفاعل فيما بينها ضمن قوة الجذب والتنافر لوجود سيالات إلكترونية بين أسطح العظمة الواحدة وهو ما يُعرف بــ (Piezoelectric Changes).

ويفهم المتأمل لدور العضلات المغلفة للعظام من قوله تعالى: " ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " [المؤمنون: 14]. فكسوة اللحم للعظم تفيد السترة والغطاء، وإن اللحم يعتبر من العظام بمقام الثوب من الجسد فهو يستر العظام ويشدها ويقويها، وهذا ما لم نعرفه إلا حديثاً بعد ظهور نتائج الأبحاث الطبية المجهرية والتشريحية.

ثانياً: إصرار الكافرين والملحدين على تحدي الخالق فيما خلق وإنكار يوم البعث والنشور والحساب.

لقد رسخ في عقول الجاحدين بعظمة الله أن موت الإنسان وتحلله وذوبان لحمه وشحمه وصولاً إلى عظامه، أن في كل ذلك نهاية لأي حديث حول قدرة الله على البعث والنشور، فأخذوا يتحدون بذلك رسله وأنبياءه " وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ " [يس: 78]. " وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا " [الإسراء: 49]. " أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ " [النازعات: 11-12]. بل تعدوا إلى حد إرجاف المؤمنين وتشكيكهم بإيمانهم: " أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ " [المؤمنون: 35]. " وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ " [الواقعة: 47].

وكان الرد الإلهي لأصحاب العقول الكافرة واضحاً ومعجزًا أيضاً، فقد أقسم الله سبحانه بيوم الحساب والجزاء وبالنفس المؤمنة التقية التي تلوم صاحبها على ترك الطاعات وفعل الموبقات أن الناس يبعثون. " لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ " [القيامة: 1-4]. فالله قادر على جمع عظام الميت، وأن يكسوها لحماً من جديد، وأن يعيد رسم البنان بما فيها من خطوط دقيقة تميز كل إنسان عن الآخر، لا يتشابه به اثنان من البشر.

وهكذا تتجلى آيات العظام التي نزلت قبل أكثر من أربعة عشر قرناً - في أمة أمية لا علاقة لها بالطب ولا بالعظام - لتفتح للعلماء آفاقاً للبحث في داخل النفوس ولاكتشاف أسرارها ولتعلم أن هذا القرآن حق، وأنه ليس قول بشر بل هو تنزيل ممن خلق الناس أجمعين. فتبارك الله أحسن الخالقين!