﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ النحل: 68, ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ النحل: 69
بين القرآن الكريم سيرة النحل في كلمات معدودات، فقد اتخذ النحل بوحي من الله تعالى بيوتاً من الجبال ثم انحدر منها إلى الأشجار، ثم إلى الخلايا التي يصنعها على نحو ما نعرفه اليوم ، وتدل الدراسات العلمية المستفيضة لمملكة النحل أن إلهام الله تعالى لها ليجعلها تطير بحثاً عن الغذاء فتبتعد عن خليتها آلاف الأمتار، ثم ترجع إليها ثانية دون أن تخطئها بالذهاب إلى خلية ثانية غيرها، علماً بأن الخلايا في المناحل تكون متشابهة ومرصوص بعضها إلى جوار بعض، وذلك لأن الله تعالى قد ذلل لها الطريق ومنحها من قدرات التكيف الوظيفي والسلوكي ما يعينها على الاستبصار في رحلات استكشاف الغذاء وجنيه ثم العودة.
الحقائق العلمية:
تضم الخلية التي بمثابة مستعمرة يعيش فيها النحل، ملكة واحدة، وبضع مئات من الذكور، وعشرات الألوف من الشغالات، وتطير النحلة الشغالة بحثاً عن الغذاء، فإذا وجدته عينت مكانه وأخذت معها عينة للخلية، وتقوم بنقل المعلومات لبقية الفريق عن طريق حركات معينة تحدد بها بعد مصدر الغذاء واتجاهه، فيسعى النحل إليه مباشرة ويجمع ما يكفيه، ولكي تجمع النحل مائة غرام من العسل لا بد من زيارة نحو مليون زهرة، ثم يقوم فريق آخر من الشغالات بالتهوية بأجنحتها لتتطاير الرطوبة ويتركز السائل فيصير عسلاً، وبعد ذلك يقوم فريق آخر من النحل بالتأكد من أن العسل قد نضج، فيغلق العيون السداسية بطبقة رقيقة من الشمع لتحتفظ به نظيفاً حتى تحتاج إليه في الشتاء عندما تخلو الحقول من الأزهار.
وقد ثبت أن اختلاف كل من تركيب التربة والمراعي التي يسلكها النحل يؤثر تأثيراً كبيراً في لون العسل، فالعسل الناتج من رحيق أزهار القطن مثلاً يكون قاتماً، بخلاف عسل أزهار البرسيم الذي يكون فاتح اللون، وعن عسل شجر التفاح ذي اللون الأصفر الباهت، وعن عسل التوت الأسود ذي اللون الأبيض كالماء، وعسل أزهار النعناع العطري ذي اللون العنبري، وغير ذلك.
وفي رحلة الاستكشاف لجمع الغذاء تستعين الشغالة بحواسها التي منحها الله إياها بحاسة شم قوية عن طريق قرني الاستشعار، وهي تمتاز على العين البشرية في إحساسها بالأشعة فوق البنفسجية، لذلك فهي ترى ما لا تراه عيوننا ولا يمكننا الكشف عنه إلا بتصويره بالأشعة فوق البنفسجية، ثم إذا حطت على زهرة يانعة استطاعت أن تتذوق رحيقها وتحدد بفطرتها مقدار حلاوته، وفي رحلة العودة تهتدي النحلة إلى مسكنها بحاستي النظر والشم معاً، أما حاسة الشم فتتعرف على الرائحة الخاصة المميزة للخلية، وأما حاسة الإبصار فتساعد على تذكر معالم رحلة الاستكشاف، إذ يلاحظ أن النحلة عندما تغادر البيت تستدر إليه وتقف أو تحلق أمامه فترة وكأنها تتفحصه وتتمعنه حتى ينطبع في ذاكرتها، ثم بعد ذلك تطير من حوله في دوائر تأخذ في الاتساع شيئاً فشيئاً، وعندما تعود إلى البيت تخبر عشيرتها بتفاصيل رحلتها، وتدل زميلاتها على مكان الغذاء فينطلقن تباعاً لجني الرحيق من الزهور والإكثار منه لادخاره لوقت الشتاء ببرده القارص وغذائه الشحيح، ولعل أغرب ما اكتشفه العلم الحديث في عالم الحشرات هو أن للنحل لغة خاصة يتفاهم بها عن طريق الرقص شرحها العالم النمساوي (كارل فون فريش) ضمن كتابه المسمى " حياة النحل الراقص " بعد دراسات استمرت نحواً من عام، فنال جائزة نوبل عام 1973م، فقد تبين لهذا العالم أن للنحلة الشغالة في جسمها من الأجهزة ما يجعلها تستطيع قياس المسافات والأبعاد والزوايا بين قرص الشمس والخلية، ثم إنها تستخدم لغة سرية في التخاطب عن طريق رقصات خاصة معبرة تنبئ بها أخواتها عن وجود الرحيق الحلو وتحدد لهن موضعه تحديداً دقيقاً من حيث زاوية الاتجاه إليه وبعده عن بيتها، وفي قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ ، الوحي: الإلهام والهداية، وبالفعل تجد أن سلوك النحل واختياره لمواقع سكنه واهتداءه لأماكن الغذاء وصناعته للعسل يتم بناء على إلهام وهداية من الله تبارك وتعالى، فنجد أن الشغالات تكون خادمة منظفة للمسكن في همة ونشاط، مربية تطعم الصغار وتسهر على راحتهم، مهندسة بارعة في البناء والتصميم، تفوق أمهر المهندسين وتتفوق على أجهزة العصر في دقة القياسات، حارسة أمينة تضحي بنفسها دون تردد أو فتور ضد أي عدو يهدد أمن العشيرة.
وقد يستأنس بعض الباحثين بوجود ياء الخطاب ( اتخذي ، كلي ، فاسلكي ) فيستدل بذلك على ما أثبته العلم الحديث من أن العمل إنما يقوم به إناث النحل ( الشغالات ) وهو استئناس متحفظ عليه لغةً فالياء ليست ياء الأنثى، وإنما هي ياء خطاب الجنس الذي يشمل خطاب الذكران والإناث والمذكر والمؤنث.
ونظير ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم ( يا خيل الله اركبي ) مع تسليمنا للحقيقة العلمية المتمثلة بأن من يقوم بالعمل بالفعل هن الشغالات الإناث، أما الذكور فإن عملها يقتصر على التسابق لتلقيح الملكة فقط في موسم التزاوج، ومهمة الملكة وضع البيض، أما الشغالة فهي أنثى عقيمة، وأجزاء فمها مهيأة لجمع الرحيق وأرجلها الخلفية معدة لجمع حبوب اللقاح، وهي مزودة بالغدد تحت البلعوم لإفراز الغذاء الملكي مع غدد إفراز الشمع وغدة الرائحة. والشغالات الكشافة
هي التي تخرج للبحث عن مصادر الغذاء، ثم تعود لتخبر رفاقها بالمعلومات اللازمة عن هذا الغذاء، ويتضح البيان المعجز كذلك في التعبير: ﴿ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ﴾، فهو شراب لم يتحول بعد إلى عسل، ويتم تحويله إلى عسل بخفض المحتويات المائية حتى لا تزيد نسبة الرطوبة فيه عن: 14-18% بفعل التهوية التي تقوم بها الشغالات، ثم يتحول السكر الثنائي (سكروز) إلى أحادي (جلكوز – فركتوز) بفعل إنزيم الانفرتيز الذي تفرزه غددها اللعابية، وبعد نضج العسل الذي يستغرق حوالي (2-5 يوم من جمعه) تقوم الشغالات بختمه بغطاء شمعي دقيق للحفاظ عليه، ويشير لفظ ﴿كُلِي﴾ إلى تغذيتها على رحيق الأزهار، وأكلها لحبوب اللقاح التي تجمعها باعتبارها المصدر الوحيد للبروتين، وهي تحتوي على بروتينات ودهون وسكريات وأملاح معدنية وفيتامينات، وتستطيع شغالة نحل العسل جمع حبوب اللقاح في مخزن خاص موجود في الأرجل الخلفية ويساعدها في ذلك الشعيرات الكثيفة المتفرعة الموجودة على جسمها، حيث يلتصق بشعيرات جسم النحلة عدد كبير جداً من حبوب اللقاح، وهو يتراوح ما بين من 250 ألفاً و6 ملايين حبة لقاح، وقد ذكر في شأن المنافع الطبية لعسل النحل أحاديث نبوية منها قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي )، ويساعد العسل في علاج عدد من الأمراض، وهو أنواع طبقاً للأصباغ اللونية التي ترجع في الأساس إلى نوع زهرة التغذية، وصدق القائل: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ النحل: 68, ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ النحل: 69
وجه الإعجاز:
مما سبق بيانه علمياً من كون العسل فيه شفاء وأنه متنوع وأن تنوعه متلازم مع أصناف الزهور التي يتناولها أو كل ذلك يتطابق مع ما سبق من دلالة النص القرآني، وبملاحظة جهل الناس في عصر التنزيل بتلك الحقائق فإن ذلك يبرز وجهاً آخر من وجوه الإعجاز وبالله التوفيق.
من موقع الهيئة العالمية للكتاب والسنة