الصورة
الإشعاع الكوني في القرآن العظيم والسنة المطهرة

 

مقال مجلة بينات

"الإشعاع الكوني في القرآن العظيم والسنة المطهرة"

(الموج المكفوف والسقف المحفوظ)

(الدكتور علي المر)

قبل سنين شد اهتمامي، وأنا أطالع كتاب تفسير قديم، عبارة "الموج المكفوف" في سياق تأويل قول الله تعالى "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ" (الأنبياء 32). لقد أثار هذا الوصف، في كتاب يعود لأكثر من ألف ومئة سنة، اهتمامي بحكم تخصصي، فما موج؟ وما مكفوف؟ وما الآية أو الآيات العظيمة التي يعرض الناس عنها، وأراد الله، عز وجل أن يشد اهتمام الناس لها، في كتابه الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ وما شأن رجل عاش قبل 11 قرن من الزمن بالموج، ولم يشتغل في علوم الفضاء والفيزياء، ولكن في تفسير القرآن العظيم وعلوم الدين الحنيف: ويا حسرتا لطالما استهان المسلمون بكتب التفسير القديمة والمفسرين القديمين؟ 

هل كان الرجل يقصد، بالإلهام، أو قل تخرصًا إن شئت، ما نسميه اليوم "أمواج الإشعاع الكوني" المدمر القادم لنا من الفضاء، والذي لو قدر لجزء يسير منه النفاذ إلى الأرض لاحترقت وتعذرت الحياة عليها، ولكن الله سلم، وكفه عنا بالتعبير الذي استخدمه أبو جعفر الطبري في تفسيره "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"؟ بقوة المجال المغناطيسي الأرضي!؟ وهل خطر ببال الرجل، يومها، أن الأرض ما هي إلا مغناطيس ضخم، له قطبان، شمالي وجنوبي، يوجهان أمواج الإشعاع، القادم إلينا من أعماق الكون نحو القطبين، بعيدًا عن المناطق المأهولة في الأرض؟ ولقد وجدتني مدفوعًا برغبة قوية للتنقيب في أمهات كتب التفسير لعلي أجد جوابًا على الأسئلة الكثيرة التي أثارها الموضوع في نفسي. ولقد وجدت أن أصْلَ الأمر حديث شريف في "تفسير القرآن العظيم" لحبر الأمة، أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، رحمه الله يقول: "قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ: مَا هذِهِ السَّمَاءُ؟ قَالَ: "مَوْجٌ مَكْفُوفٌ عَنْكُم"[1]!

ومرة أخرى شدني هنا لفظ "عنكم"؛ لما يحمل من معنى الدفع والوقاية. ودفعني إلى البحث أكثر عن روايات تفسره أو تؤكده؛ ولقد وجدت ثلاث عشرة رواية للحديث، صنفت جميعها دون الصحيحة؛ أربعة منها صنفت ضعيفة. ولقد وجدت فيها أوصافًا أخرى تنطبق تمامًا على الإشعاع الكوني، الذي كنت قد انتهيت من البحث فيه ضمن أطروحة بعنوان "دراسة حالات التعرض الإشعاعي المزمن في الأردن وآثاره الصحية" نلت عليها درجة الدكتوراه عام 2002. وأعدت إصدارها عام 2012 في كتاب بعنوان " الإشعاع البيئي وآثاره الصحية- دراسة تطبيقية شاملة (الحالة الأردنية)؛ 

ومن تلك الأوصاف: كلمة "أوَّلُها"؛ في مثل هذه الرواية عن الربيع بن أنس البكري تقول: "السَّمواتُ أوَّلُها مَوجٌ مَكفوفٌ.. الحديث"[2]؛ ما يفيد أن السقف المحفوظ يقع فيما يلي الأرض مباشرة من السماء؛ وهو ما نطلق عليه اليوم الغلاف الجوي، الذي يمتد نحو 190,000 كيلو متر في كبد الفضاء؛ ويتم فيه تشتيت الأشعة الفوق البنفسجية الضارة؛ وحرق الشهب والنيازك وهي أيضًا ضارة؛ وفي أعلاه تُصد أو تُكَفُّ الإشعاعات الكونية، بفعل المجال المغناطيسي الأرض، قبل أن يحرفها نحو قطبي الأرض؛ كما بينا في الفقرة السابقة. وعبارة "يَسُوقُهُ اللهُ.."، في عدد من الروايات، مثل هذه الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ يقول: "بينَما نبيُّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ جالسٌ وأصحابُهُ إِذْ أَتى عليهم سحابٌ؛ فقالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: هَلْ تَدْرُونَ ما هذا؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعْلَم. قالَ هذا العنانُ، هذِهِ روايا الأرضِ يسوقُهُ اللَّهُ إلى قومٍ لا يشْكرونَهُ ولا يدعونَهُ. ثمَّ قَالَ: هَلْ تَدرونَ ما فَوْقَكُم؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعْلَم. قالَ: فإنَّها الرَّقيعُ، سقفٌ محفوظٌ وموجٌ مَكفوفٌ... الحديث"[3]؛ وفيها علاوة على السقف المحفوظ والموج المكفوف معاني الجبر والإبعاد وحركة ليس للإنسان فيها دخل ولا إرادة. 

ولقد توقفت مليًا هنا عند كلمة "الرقيع". ورحت أبحث عن معناها في قواميس اللغة ومواقع تفسير الحديث، الألوكة وإسلام ويب وغيرهما، فوجدت في لسان العرب حديثًا هذا نصه " المؤمنُ واهٍ راقِع؛ فالسَّعِيدُ مَن هلَكَ على رَقْعِه"[4]؛ أي أن الإيمان يَهِي أو يضعف بالمعاصي، والمؤمن يرقعه أو يصلحه بالتوبة. وحديثًا عن معاوية رضي الله عنه يصف طريقة أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم "كانَ يَلْقَم بيدٍ ويَرْقَع بالأُخْرى[5]"أَي يأكل بيد ويَبسُط اليد الأخرى لينتثر عليها ما يسقطُ من لُقَمه. وفي هذه الأوصاف ما يتوافق تمامًا مع ظاهرة الإشعاع الكوني الذي يسقط نحو الأرض، والمجال المغناطيسي الأرضي الذي يرقعه أو يرده أو يكفه، كما يرقع الطاعم بيده ما يسقط من فتات طعامه!

ولقد شعرت، بعد هذه الرحلة الطويلة من البحث، بعظيم التقدير والامتنان لأولئك العلماء الذي حفظوا لنا الحديث، حتى الضعيف والغريب، ومنهم عالمنا الطبري، الذي عاش في منتصف المدى الزمني الذي يفصلنا عن عصر ابن عباس والنبوة الغراء؛ ونقل إلينا كلمات مفتاحية "موج مكفوف" شكلت رأس الخيط الذي تتبعته في تحليل وفهم بعض معاني الآية الكريمة "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ". ولقد رأيت تقديرًا لهذا العالم، أن أبدأ محاضرتي بنبذة عنه. وأملي من وراء ذلك أن أخط سنة حسنة، نحرص عليها ونتواصى بها نحن معشر العلماء والمهتمين: أن نقدم محاضراتنا وكتبنا وأعمالنا العلمية بنبذٍ عن حضارتنا المشرقة التي تتعرض للسرقة والتشويه؛ وتاريخنا الوضاء الذي يتعرض للطمس المتعمد؛ وبشروح عن علمائنا الأخيار الذين يوم حملوا مشعل القرآن العظيم والسنة المطهرة أناروا ظلمات الأرض؛ وجعلوا من أمة أمية، كانت على هامش التاريخ وفي ذيل الأمم، خير أمة أخرجت للناس! 

حزاما الإشعاع الكوني حول الأرض! اليمنى من مقال علمي[6]؛ واليسرى بالرسم

تدور فكرة البحث الأساسية في هذه المادة (المحاضرة) حول ظاهرة طبيعية اكتشفها العلماء حديثًا، في عام 1958 م، وهي صد الإشعاع الكوني المدمر من الوصول إلى الأرض، أو كَفُّهُ عنا، بقوة المجال المغناطيسي الأرضي؛ وتوجيهه نحو القطبين. ولقد تكونت لدي، بعد بحث مستفيض، قناعة راسخة أن هذه الظاهرة تدخل في معنى الآية الكريمة "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ"؛ وأن الأحاديث التي تتحدث عن الموج المكفوف، مع أنها ضعيفة أو دون الصحيحة، قد وصفت تلك الظاهرة بمفردات وتعبيرات دقيقة تصلح لكي تكون اسمًا علميًا نطلقه على الغلافين الإشعاعين اللذين اصطلح على تسميتهما علميًا غلافا أو "حزاما فان ألين"، نسبة للعالم جيمس فان ألين، الذي اكتشفهما في ذلك العام. 

ولقد حرصت، علاوة على ما سبق، على تضمين محاضرتي نبذة للتعريف بمصادر الإشعاع التي تؤثر على الإنسان والبيئة، على مدار الساعة، وسبل الوقاية منها ومجموعة من التوصيات: توصية، ودعوة لعلماء الحديث الشريف للنظر في اعتماد الحقائق العلمية القطعية، المثبتة بالبحث العلمي، في الكون والمادة والحياة، أداة معتبرة في دراسات الحديث الشريف، تدعم عمليات الجرح والتعديل. ودعوة للمحافظة على التراث العلمي من الضياع؛ وتفنيد الناقدين له على أساس عقلي محض؛ فإن العقل يحكم بما هو متاح من معرفة في نواحي الحياة المختلفة. والدعوة للاهتمام بالإعجاز العلمي، في القرآن العظيم والسنة الشريفة؛ ودعم المؤسسات العاملة فيه. ودعوة لتدريس تخصص الإعجاز، في القرآن والسنة، وإنشاء أقسام خاصة بها في كليات الشريعة وعلوم الدين؛ وتعليمها كساعات معتدة مكملة لجميع التخصصات الأخرى. والدعوة للاهتمام باللغة العربية؛ وجعلها متطلبًا مكملًا في جميع التخصصات العلمية الجامعية؛ كونها وعاء القرآن العظيم؛ ولصلتها الوثيقة بفهم علوم الدين، وباعتبارها أداة لفهم وتذوق تلاوة القرآن العظيم وفهم معانيه واستجلاء مكامن إعجازه وعظيم قوته وبيانه. ودعوة لإحياء الواجب الأول المغيب، الكلمة الأولى التي نزلت من رسالة السماء "اقْرَأْ"؛ فإن أمتنا أقل الأمم في القراءة، وليس ذلك بأمر عفوي، وإنما من فعل شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم لبعض، لجعل أمة كانت خير الأمم أكثر الأمم تخلفًا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 

[1]  الحديث: رواه ابن عباس وإسناده غريب. 

[2] شهاب الدين البوصيري؛ اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة؛ إسناده مرسل- رواته ثقات. 

[3] أخرجه الترمذي؛ وحكمه ضعيف.

[4] أخرجه الطبراني؛ وحكمه ضعيف.

[5] كما ورد في المصدر (التالي). وقد أعياني البحث عن أصل له في الشبكة. ولكني أوردته لتقريب المعني اللغوي؛ ولما علمت من ويكبيديا بان صاحب لسان العرب فقيه إلى جانب عالم لغة. 

[6] انظر شادي عبد الحافظ؛ "كيف يسافر البشر إلى الفضاء مع وجود هذا الحزام الإشعاعي القاتل"؛ موقع الجزيرة- نت؛ 17/12/2020.