
من صور الاعجاز البياني في مطالع سورة الاسراء - أ.د. أَحْمَد الرِّقِب
لئن كان الإمام الجرجاني ذهب إلى توخي معاني النحو في تلمس الإعجاز البياني في القرآن الكريم، فإن اللفظ القرآني يكتنز بالمعاني والأفكار الرحبة ؛ بما يرقى بالعقل في سماء المعرفة، ويسمو بالنفس في مراقي الفلاح ، حتى على نحو قول ابن عطية لو نزعت منه كلمة ، ثم أدير لسان العرب كله لما وجدوا ما يسد مكانها العتيد ؛ ولقد أبدع في هذا السير المشوق دراز في كتابه النبأ العظيم.
وهذه محاولة لاقتناص الفرصة في اختيار كوكبة من ألفاظ سورة الاسراء ، والمهمة دونها نومة أهل الكهف ، فكل لفظ من آياتها متصل بالبركة من آياتها ؛ فأنى لي غفلة القلم !
ولكن من باب الطاقة البشرية، وبذريعة الواقع المر ، وكل مر سيمر ، اخترت موضعين كريمين :
الأول : ولتعلن علوا كبيرا
الثاني : ليسوءوا وجوهكم
أما الأول فإشارة الى حاضر بنتفش فيه الباطل حتى يستبد الوهن بالأمة من كل وجه ، وحتى يرتطم الباطل بسنن الله ونواميسه ليسقط على أم رأسه !
وأما البشارة علاوة على ما سبق ؛ فإن التعبير بهذا الفعل والفاعل والفاعلية مؤذن بالسقوط؛ إذ إنه ذاتي العلو دون قاعدة صلبة ، أو عقيدة مكينة ، فيوشك أن يهوي في واد سحيق ، إذ ما طار طير وارتفع الا كما طار وقع .
﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾
وجاءت صورة من صور علو هذا العدو في سورة الاسراء نفسها في قوله تعالى ﴿ قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾
والعجيب أن هذا الجملة القرآنية لم ترد في مجموعها إلا مرة واحدة في القرآن الكريم ، فهي حالة متفردة في الطغيان والعلو !
بل مما يزيد من وهج الاشارة والبشارة أن هذا العلو الموصوف بالكبر " علوا كبيرا ' قد اقترن بفساد عريض " لتفسدن " بالقسم ونون التوكيد من العيار الثقيل ، والناموس الرباني ان الله لا يصلح عمل المفسدين.
وأخبرنا القرآن عن صورة شبيهة من صور العلو ، فوالله لا أدري من المشبه والمشبه به ! وذلك في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾
واليوم نشهد هذا في مشاهد مفزعة يندى لها جبين الانسانية ، من قتل الأطفال ؛ بل لم يستحيوا النساء وإنما ارتكبوا مجازر في حقهن ؛ فلم يفرقوا بين طفل وشيخ وامرأة ورجل ، فبلغ السل الزبى والربى .
وفلسطين وما حولها شهدت علوا انتهى بسنة الاستئصال حاق بقوم لوط عليه السلام " فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وامطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود "
وفي موضع آخر لا ثالث له ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ﴾
وأنظر هذه اللمحة العجيبة ﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ﴾؟!
ولو أن العالم الاسلامي اجتمعوا على لسان واحد لصرخوا صرخة مدوية صرخة لوط على مقربة من الارض المقدسة " أليس منكم رجل رشيد " ؟؟
ورحم الله ابن فارس حينما قال في معنى العلو ما يحسن ذكره قال لله دره : العين واللام والحرف المعتل ، إي والله هو معتل مليء بالعلل ، قال :أصل واحديدل على السمو والارتفاع ، لا يشذ عنه شيء.
ما ذكره ابن فارس أحزنني فأي سمو هذا ، وقد ذبحوا الأجنة في بطون أمهاتهم، حتى أسعفني الخليل بقوله : أصل هذا البناء العلو ، فأنا العلاء فالرفعة ، وأما العلو فالعظمة والتجبر ! ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾
. ' فشتان بين العلو والعلياء !