مفهوم الأمن المجتمعي في القرآن والسنة، وتطبيقاته
الأمن، والأمان في الإسلام فريضة شرعية، وضرورة حياتية لا يستغنى عنها إنسان ولا حيوان ولا طير ولا جماد، فهو نعمة من الله تعالى يبسطها في قلوب الأفراد والمجتمعات والدول، وجميع الكائنات.
وأرقى ألوان الأمن وأعلاها في سلم الدراسات والعلوم السياسيَّة والاجتماعيَّة الأمن االإجتماعي الذي يرتبط بالمجتمع ككل، ويرتبط أيضًا بالكثير من الممارسات والمقومات التي إن توافرت؛ فإنَّ ذلك يكون بمثابة شهادة على تطور ورقي هذا المجتمع.
والمقصود بالأمن الاجتماعي من المنظور الإسلامي "الطمأنينة التي تنفي الخوف والفزع عن الإنسان، فردًا أو جماعةً، في سائر ميادين العمران الدنيوي في الزَّمن الحاضر والآتي، بل وأيضًا في المعاد الأخروي فيما وراء هذه الحياة".[1]
وبالنظر في مفهوم الأمن المجتمعي في المنظور الإسلامي يتبين لنا ما يلي:
-
هناك تلازم ما بين لفظ " الأمن " ولفظ " الاجتماعي " ذلك لأن الأمن في فلسفة التشريع الإسلامي لا يكون إلا اجتماعياً، ويستحيل أن تقف حدوده عند حدود الفرد دون الاجتماع الشامل للأفراد ضمن الجماعة، إذ الإسلام دين الجماعة، وفلسفته التشريعية جمعت بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية، وعليه فإن أي اختلال في الأمن الاجتماعي يترتب عليه زوال أمن الفرد.
-
اتساع مفهوم الأمن الاجتماعي ليشمل مفاهيم ومضامين متعددة وجديدة، تتداخل مع مجمل أوضاع الحياة ليشمل الإصلاح الاجتماعي والسياسي، وتحقيق العدل والمساواة والحرية، والكفاية الاقتصادية وغيرها من القضايا الملحة ذات العلاقة التي يحتاج إليها الفرد في حياته اليومية.
-
من خصائص الأمن الاجتماعي كل لا يتجزأ يشمل الأمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري الثقافي وغيرها، والتي تعد من مقومات الأمن الاجتماعي الشامل، ولا يمكن تحقيق أي من فروع الأمن بمعزل عن الفروع الأخرى.
وتأصيل مفهوم الأمن الإجتماعي جاء واضحا في القرآن الكريم فقد ورد الأمن ومشتقاته في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، وبصيغ متعددة ، منها:
- قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، كما قال عز وجل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55] فلقد جعل الله تعالى الأمن والطمأنينة من ثواب المتقين وجزائهم في الدنيا والآخرة إذا التزموا بما أرشدهم إليه من الهدى، فدل ذلك على عظم هذه النعمة في الدارين، وأثرها في تحقيق السعادة في نفوس الأفراد والجماعات.
- وقال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل:112] فقد تحدثت الآية الكريمة عن أمن المجتمعات، وبينت كيف انقلب الأمن والاطمئنان إلى جوع وخوف بسبب كفر أهل هذه القرية بأنعم الله فذهب الرزق وحل الجوع، وذهب الأمن وحل الخوف ، مما يعني أن- القرية تظل آمنة ما آمنت بالله ، فإن كفرت أذاقها الله لباس الجوع والخوف، كما تشير الآية إلى أن الأمن والاستقرار دليل الانتاج والتقدم، وأن الخوف والاضطراب دليل التراجع وفقدان الثقة وانتشار الفوضى
- وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة:126] فكان المطلب الأول لسيدنا إبراهيم - عليه السلام - من ربه هو نعمة الأمن، ذلك أن الأمن هو الأساس والمنطلق للتنمية والتطور، وهو السلاح الفاعل في مواجهة الخوف، وهو الصيانة والوقاية لمنجزات الحاضر والمستقبل.
- وقد أورد القرآن العظيم ذكر نعمة الأمن التي حباها الله تعالى لبيته المحرم وعمّاره وحجاجه – في مواضع شتى ومنها قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [ابراهيم:35]، وفي هذا دلالة بينة على نعمة الأمن وأهميتها في حياة الأفراد والمجتمعات.
- وقال تعالى (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ *فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ *الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 1-4]. يمتن الله تعالى على قريش بنعمة الأمن ولولا عظم هذه النعمة لما أوردها الله تعالى في معرض الامتنان، كما أشارت الآيات الكريمة إلى أنه لا يمكن تحقيق العبادة على وجهها الأكمل إلا بالأمن والاستقرار
- وقال تعالى: (وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) [البقرة:283].
فقد بينت الآية الكريمة أن من محاور الأمن ومجالاته ذلك الذي ينتج عن حسن التعامل بين أفراد المجتمع المسلم من خلال الالتزام بتوجيهات الإسلام وإتباع أوامره , وبما ينعكس إيجاباً على كافة مناحي الحياة في المجتمع .
-
ولقد كفل الله سبحانه وتعالى للإنسان الأمن الكامل في حياته بما وضع له من منهج قويم ينظم حركته فيها، حيث سبق الإسلام العقائد كلها في الحديث عن أهمية الأمن الاجتماعي.
أما في السنة النبوية فقد جاء معنى الأمن الإجتماعي واضحا أشد الوضوح
-
فقد قال (صلى الله عليه وسلم): " من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)[2] بين الحديث الشريف أنه من تحقق له الأمن مع القوت اليسير الذي يسدّ به جوعه، ويقيم به أوده فقد حصل على خير كثير، شبهه النبي (صلى الله عليه وسلم) بمن ملك الدنيا بما فيها.
- ولقد كانت خطبته (صلى الله عليه وسلم) يوم عرفة في حجة الوداع بمثابة إعلان عالمي على ضرورة تحقيق الأمن الاجتماعي بين بني البشر بصرف النظر عن ألوانهم وأحسابهم وأعراقهم، فالدماء والأموال والأعراض مصونة ومحرمة كحرمة الكعبة المشرفة.
- قوله (صلى الله عليه وسلم): (يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت"؟ قالوا: بلَّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم قال: "أي يوم هذا"؟ قالوا: يوم حرام. ثم قال: "أيُّ شهر هذا"؟ قالوا: شهر حرام. ثم قال: "أي بلد هذا"؟ قالوا: بلد حرام. قال: "فإن الله قد حرَّم بينكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، أبلغت"؟ قالوا بلَّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: "ليبلغ الشاهد الغائب"[3]
- ولقد حرص (صلى الله عليه وسلم) على التضرع إلى الله طلباً للأمن، وتكرار ذلك في دعائه دلالة على أهمية الأمن في حياة المسلم، وأن هذه النعمة هي من أهم الضرورات الواجب تحقيقها في المجتمع.
ما ورد عنه أنه (صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يكرر في أدعيته وأذكاره قوله (صلى الله عليه وسلم): (اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف) [4]، وقوله: (اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي)
-
ولأهمية الأمن في حياة الشعوب كان من أولويات الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما هاجر من مكة إلى المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار، وبذلك يتم الانصهار الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، فتذوب بينهم الفوارق الاجتماعية، وبالتالي تسود المحبة والمودة وتنتفي الأحقاد والضغائن ويسود الأمن.
ونظرا لأهميَّة قضيَّة الأمن الإجتماعي فإنَّ علماء الأمَّة ربطوا ما بين أهداف الأمن الإجتماعي ونتائجه، وبين المقاصد الخمس التي نُزِّلت الشريعة الإسلاميَّة من لدُن حكيم عليم.
وأسهمت الشريعة الإسلامية بما اشتملت عليه من أحكام في تحقيق الأمن الاجتماعي من خلال حفظ النفس البشرية ، وتحريم إزهاقها والاعتداء عليها ، معتبرة أن قتل فرد من أفرادها هو قتل لجميع المجتمع، يقول تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة:32]، كما حفظت الشريعة الأعراض ونهت عن التطاول عليها ، وحرمت الزنا واعتبرته فاحشة وجريمة منكرة يعاقب عليها مرتكبها قال تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) [الاسراء:32]، وحفظت الشريعة مال الإنسان، ومنعت السرقة وآكل أموال الناس بالباطل،قال تعالى : (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:188]، كما حفظت الشريعة عقل الإنسان من خلال تحريم المسكرات والمخدرات فقال عز من قائل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:90].
وقد أسهمت الشريعة الإسلامية في بناء وتحقيق الأمن الاجتماعي من خلال جملة من الأسس والمبادئ لتحقيق هذا البناء، من أهم هذه الأسس: العدل، والمساواة، الحرية، والتكافل، والقوة.
ومما سبق بيانه يتضح أن الأمن الاجتماعي الذي اهتم به الإسلام ودعا إليه وعمل على تحقيقه وتطبيقه هو الأمن الشامل، أي كل ما يحتاجه الإنسان من أمن على نفسه وماله وأهله ووطنه، فشمل الأمن على الأرواح والممتلكات والأعراض والكرامة والأبدان والصحة، والأمن الغذائي والاقتصادي والبيئي والبحري وغيرها من المسميات التي تندرج تحت المفهوم الشامل للأمن وهو الأمن الاجتماعي بجميع أبعاده ومقوماته.
ويجب أن ندرك جميعًا أن تحقيق الأمن المجتمعي ليس مسؤولية الدول والحكومات وحدها، بل هو قضية يجب أن تسهم فيها كل قطاعات الشعوب من أفراد ومؤسسات المجتمع المدني، بجانب الهيئات والمؤسسات الحكومية، ومختلف القوى والفعاليات التي يتشكل منها البناء العام للأمة والمجتمع.
د. رولى محسن
[1]عمارة، محمد، الإسلام والأمن الاجتماعي، ص11، دار الشروق، ط1
[2] رواه البخاري في الأدب المفرد ، تحت رقم ( 300 ) 1/ 112 ، ورواه ابن حبان ، صحيح ابن حبان ، 2 /446، والترمذي ، سنن الترمذي ، كتاب الزهد ، باب " في التوكل على الله " تحت رقم ( 2346 ) ، وقال أبو عيسى : " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية " ج4/ ص5 ، وابن ماجه ، سنن ابن ماجه ، كتاب الزهد ، باب " القناعة " تحت رقم ( 4131 ) .
[3]البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر (المتوفى: 458هـ) حققه وراجع نصوصه وخرج أحاديثه: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، حديث رقم(4774) ، ج7، ص 133،الناشر: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند
ط1، 1423 هـ - 2003 م، الجامع الصحيح للسنن والمسانيد (10/ 48)، الكتاب: شعب الإيمان
[4] انظر يحيى ، النووي ، شرح صحيح مسلم ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط3، 1984م ، ج 16 / 83