صورة
فقه السنن الإلهية والثقافة السننية

يتكون هذا البحث من قسمين، الأول نظري: وهو التعرف على حقيقة السنن الإلهية "فقه السنن الإلهية"؛ والجزء الثاني عملي: وهو "الثقافة السننية" ذلك أن محاولة ربط المعرفة العلمية على المعرفة النظرية هو دأب العلماء والفلاسفة والحكماء، فالعمل إذا لم يكن مستنداً على علم نظري، فإنه قلَّما يكون صائباً، وإن أصاب مرّة فبالمصادفة التي لا يبنى عليها نتائج يوثق بها وينتفع منها. كما يقول فيلسوف العرب الكندي (حوالي 256هـ) في قوله: "... لأن ذوي الحكمة إذا أرادوا أن يفعلوا شيئاً قدموا قبله النظر".

 

وحقيقة هذه السنن هو ما ورد في القرآن الكريم وفيما صحّ من السنة النبوية المطهرة، وقد يستأنس بما وصل إليه الإنسان من علوم مختلفة لفهم ما ورد عن هذه السنن في القرآن والسنة، وللتعرف على أمثلة تطبيقية عليها دون جعلها مصدراً أو مرجعاً بديلاً عن القرآن الكريم.

 

والتعرف على حقيقة السنن الإلهية وفهمها له جوانب متعددة، أهمها العبر، فالمعرفة تعين على تطبيق السنن في الواقع، مما يؤدي إلى تحقيق خير الإنسان، فرداً وجماعة، في الدنيا والآخرة؛ إذ أنها تبين له كيف يتعامل في حياته مع الوجود في جميع أجزائه، مع الخالق والمخلوق، لتحقيق مهمة الخلافة التي انتدبه الله لها، وتحقيق الغاية التي خلق من أجلها، وهي عبادة الله.

 

فتدبر القرآن الكريم ثم السنة الصحيحة هما المرجع والأساس للتعرُّف على السنن الإلهية وفهمها، باستخدام مناهج التفسير المختلفة، واستقراء جميع الآيات التي تحتوي على لفظ سنة – أو سنن، والألفاظ المقاربة، للوصول إلى بيان حقيقة السنن التي هي بمثابة قوانين ثابتة.

 

وإن النظر من مقدمات منهج الاستنباط (التدبر) كما في قوله تعالى: ﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]، يبدأ نظراً حسيَّاً بجمع معلومات، ثم يقوم العقل بتأملها واستنباط ما يلزم عنها من نتائج.

وقد اهتم كثيرون بموضوع السنن الإلهية، وقدموا دراسات نافعة، من المناسب الإشارة إلى بعضها، إذ يصعب حصرها.

أما تعريف فقه السنن الإلهية، لغة فهو: الفهم والفطنة وحسن الإدراك، واصطلاحاً فهو: منظومة من النواميس، وضعها الله الخالق وقدرها تقديرا، فجاءت ثابتة، مطردة، متكاملة، متسقة، وجعلها سبحانه أمثال هداية للناس وعبراً، لكي تسير الحياة الإنسانية بكل جوانبها (الفردية والجماعية والحضارية) وفقاً لها بلا إكراه، بحيث يؤدي تطبيقها إلى نتائج إيجابية فيها الخير، وإهمالها إلى نتائج سلبية فيها الاضطراب والشر.

 

وتختص هذه السنن بالثبات، والاطراد: وهو وقوع التكرار في الأمر الواحد على النحو نفسه والهيئة ذاتها والنتائج عينها، وإن معرفة الثبات والاطراد في السنن الإلهية يسهّل على الباحث الوصول إلى توقعات يوثق بها. كما تختص هذه السنن بالتكامل، والاتساق فيما بينها فلا يتعارض بعضها مع البعض الآخر ولا تتناقض. وإن معرفتها تساهم في الأخذ بأسباب النصر الحقيقية، وتجعل الحصول على العلم أمراً ممكناً، وتعين في فهم مشكلات الحياة الواقعية، وإيجاد الحلول لها، وتفيد في تربية الأجيال وتثقيفهم والوعي بمشكلاتهم، وتبين نواميس حركة الحياة التي إذا تحققت فيها المقدمات تتحقق تبعاً لها النتائج.

 

وفي القسم الثاني: الثقافة السننية التي هي جملة المعرفة العملية المكتسبة التي تنطوي على جانب معياري وتتجلّى في سلوك الإنسان الواعي في تعامله في الحياة الإنسانية (الاجتماعية) مع السنن الإلهية، وتتجلى في السلوك الواعي للإنسان (فرداً وجماعة) في تعامله في الحياة الاجتماعية مع الوجود بأجزائه المختلفة، وهو قسمان: الخالق، الذي لا شريك له، وجميع المخلوقات، وتكون مرجعية هذه الثقافة السننية هي مرجعية الثقافة الإسلامية، ومن الأمثلة عليها على مستوى الأفراد، سنة التقوى، و"سنة النصر" للجماعات والأقوام، كقوله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40] ثم سنة الاستخلاف، التي يمكن صياغتها في صورة قضية شرطية لزومية، وهي: من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، يهلكه الله ويستخلف غيره مكانه.

فالإفساد في الأرض مضاد للإيمان بالله والعمل الصالح، والله يحب الإيمان ويحب الأعمال الصالحة، ويقابل الإفساد في الأرض الإصلاح والعمران، أي الاستفادة من جميع مواردها.

 

كما أن السير في الأرض والنظر الحسي والعقلي فيها يشكل جزءاً مهماً من علوم التاريخ، والآثار لمن أراد أن يعتبر أو أراد شكوراً.