صورة
الوقف لصالح دعم الأسرة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي

(6)

بسم الله الرحمن الرحيم

دعم الأُسرة وتحقيق الاستقرار الاجتماعيّ عبر الأوقاف

(الكفالة والتّمكين)

أ. د. حنان قرقوتي

حثّت "الشّريعة الإسلاميّة" على إنشاء "الأوقاف" لصالح "المجتمع" الذي يتألّف من "الأُسرة النُّواتيَّة"، أو الأُسرة الصّغيرة، وهي الأُسرة المكوَّنة من زوجين تعاقدا على العيش معاً لتكوين أسرة وأولاد، وصولاً إلى "الأسرة الممتدّة"، وهي الأسرة الكبيرة التي تضمّ الآباء والأبناء والأحفاد. ويتساوى في "التّكوين الأُسْرِيِّ" الأغنياء والفقراء.  وتتألّف "الأُمَّة" من مجموع "المجتمعات".

ولمّا كانت "الشّريعة الإسلاميّة" قد وضعت نظاماً للمحافظة على الأُسرة، فقد كان فيما وضعَته "نظامٌ اجتماعيٌّ" لدعم احتياجات "المجتمعات الإسلاميّة" في أزماتها، وذلك عبر "التّقديمات الماليّة" من زكاة وصدقات، بما في ذلك "الأوقاف" التي كانت، وما زالت، تُنشأُ لحاجات مجتمعيّة آنِيَّة ومستمرّة. 

وقد شجّع الدّين الحنيف، في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويّة الشّريفة، على إنشاء "الأوقاف". 

وممّا جاء في القرآن الكريم في هذا الشّأن قوله تعالى: {لَنْ تَنالوا البِرَّ حتّى تُنْفِقوا ممّا تُحِبّون، وما تُنْفِقوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَليم} [آل عِمْران، 92]، وقوله تعالى: {يا أَيُّها الّذينَ آمَنوا أَنْفِقوا ممّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعَ فيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَة، والكافِرونَ هُمُ الظّالمون} [البقرة، 254]، وقوله تعالى: {يا أَيُّها الّذينَ آمَنوا أَنفِقوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُم} [البقرة، 267]. 

وممّا جاء في السُّنَّة النّبويّة الشّريفة قوله صلّى الله عليه وسلّم: (إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو عِلْمٌ يُنتفَع به، أو ولدٌ صالحٌ يَدعو له).

وكان أوّل مَن أوقَف في الإسلام هو الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، إذ أوقَف سبعة بساتين كان أوصى بها أحد المجاهِدين قبل موته وترك أمرها للرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فأوقفَها الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم على الفقراء والمساكين والغزاة وذوي العاهات واليتامى.

 ثمّ تبعه الخلفاء الراشدون والصّحابة الكرام في ذلك، حتّى قال جابر رضي الله عنه: "ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له مقدرة إلاّ وَقَف".

وكان يُعَبَّرُ في العهود الإسلاميّة الأولى عن "الوقف" بـ "الصّدقة"، ولم يكن هناك وقف "ذُرِّيٌّ" أو "خيريّ"، عِلماً أنّ "الوقف الذُّرِّيُّ" هو ما نُسب إلى نَفْسِ الواقف ومن بعده إلى ذُرِّيَّتِهِ وذَوي قُرْباه، وفي حال انتهاء الذُّرِّيَّة يتحوّل الوقف إلى جهة من جهات الخير، كالوقف الخيريّ لإعانة الفقراء، أو تجهيز البنات، أو إعانة اليتامى. أمّا "الوقف الخيري" فهو الذي يكون لأعمال الخير مباشرة، والمراد به مرضاة الله عزّ وجلّ.

ومن الأوقاف الخيريّة التي لا تنقطع: ما يُنْفَق على عِمارة المساجد، والزّوايا (أماكن التّعليم الدّينيّ على يد علماء)، والمدارس، وطلبة العِلم، والمقابر، وعلاج مرضى المسلمين، وإصلاح الجسور والطّرقات العامّة.

ومن الأوقاف الخيريّة أيضاً: ما يُنْفَق على الفنادق للمسافرين، ومنها ما يعطى قروضاً للتّجارة، ومنها ما يعطى أغذية للأطفال، كوقف "نقطة الحليب"، الذي وقفَه "السّلطان صلاح الدّين الأيّوبيّ" في قلعة "دمشق"، لإمداد الأمّهات بالحليب والسُّكَّر لتغذية أطفالهن.

ومن الأوقاف الخيريّة كذلك ما هو منقول: كَكُتُبٍ وثياب وسلاح، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (وَأَمَّا خَالِدٌ فإنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ في سَبيلِ اللهِ).

والذي يَهُمُّ هنا هو دور "الوقف" في "دعم الأُسَرِ" التي هي بحاجة إلى الدّعم، وهذا الدّعم متنوِّع بتنوُّع المشكلات التي تعانيها بعض الأُسَر، ومن ذلك "التَّعَثُّرُ الماليّ"، خاصّة في هذه الأيام التي تعاني فيها المجتمعات على الصّعيدَين الاقتصاديّ والصِّحِّيّ، خاصّة في جائحة "كورونا" التي ساعدت على تفاقم الوضع الاقتصاديّ من الغلاء إلى تَفَشّي البطالة بين الشّباب ممّا أدّى إلى عزوفهم عن الزّواج.

وقد اورد التّاريخ الإسلاميّ ذِكراً لأوقاف كثيرة تمّ إيقافها لمساعدة الفقراء على الزّواج، حيث لم تَخْلُ مرحلة من مراحل هذا التّاريخ من وجود فقراء، إلاّ في مرحلة الخليفة الرّاشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

كما كانت هناك أوقاف مُلفِتة في هذا الشّأن، مثل تزويج المكفوفين.

ولا زال هذا الأمر مستمرّاً حتّى اليوم، سواءً عبر نشاطات وقفيّة فرديّة أو مؤسَّسات وقفيّة، ويشمل جوانب عدّة تتطلّبها عمليّة التّزويج، ومن ذلك: إقامة حفلات زفاف جماعيّة، وتأثيث البيوت بالمفروشات، وتأمين الحاجيّات المنزليّة المختلفة، مثل: البرّادات والأفران وأدوات المطبخ.

وإضافة إلى هذه النّشاطات فإنّ بعض الجهات الإسلاميّة تقيم دورات لبعض المقبِلين على الزّواج، ذكوراً وإناثاً، تشرح لهم فيها واقع الزّواج. 

هذا، ولا يتركّز العمل الوقفيّ في مساعدة أفراد الأُسر الفقيرة على تأمين زواج بعضهم، بل يتعدّى الأمر ذلك إلى متابعة حاجاتهم خلال حياتهم، لتلبية ما أمكن منها تحت عنوانَين هما: "الكفالة" و"التّمكين".

وتشمل كفالة الأُسَر المحتاجة الأمور التّالية: المسكن، والغذاء، والكساء، والتّعليم، والاستشفاء، والزّواج، وتأمين فرص عمل.

أمّا "التّمكين" فيقوم على "التّدريب المِهنيّ" وتأمين فرص كسب الرِّزق، وليس بالإنفاق الدّوريّ على الأُسَر. ولعلّ القدوة في هذا التّمكين هي قصة ذلك الرّجل الذي جاء إلى الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم يطلب مالاً، فأمرَه الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بأن يأتي بأشياء من بيته ليبيعها، فباعها بدِرْهَمَيْن، فأمرَه بأن يشتري بأحدهما طعاماً لبيته، وأن يشتري بالثّاني قَدّوماً يحتطب به، فعمل الرّجل حطّاباً واستغنى عن حاجة النّاس. وجاء في الأمثال: "لا تُعْطِهِ سمكة، ولكن عَلِّمْهُ الصّيد".

كما يدخل في "التّمكين" أيضاً ما تقوم به بعض الجهات الوقفيّة من نشاط تحت عنوان "القرض الحسن"، حيث تقوم بإقراض أصحاب المهن الصغيرة بالدرجة الأولى مبالغ من المال لمساعدتهم في تحسين ظروفهم المعيشيّة، كما تقوم بإقراض الأفراد لتلبية حاجاتهم الطّارئة، مثل: دخول مستشفى، أو تكاليف تعليم، أو استكمال أثاث منزل. إلاّ أنّ هذه الجهات قد وضعَت سقفاً ماليّاً للقرض حتّى لا يَعْجَزَ المقترِض عن السّداد، كما وضعَت سقفاً زمنيّاً للتّسديد، عبر دفعات شهريّة، حتّى تتمكنّ من تلبية طلبات الاقتراض التي هي دائماً أكبر من إمكانيّات هذه الجهات.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه تقوم في "لبنان" جمعيّات أهليّة، إسلاميّة وغير إسلاميّة، بأعمال "الكفالة" و"التّمكين". وهناك "جمعيّات عائليّة" تتابع أوضاع الأُسَر المتعثرة من العائلة في مختلف جوانب الحياة، وتعمل على محاولة حلّ مشاكلها قَدْرَ المستطاع.

ويدخل في مساعدة الأُسر أيضاً ما تقوم به بعض الجهات الوقفيّة والأهليّة من العمل على الإصلاح بين الأزواج، الأغنياء منهم والفقراء، وعادة ما ينعقد الصُّلح في منزل كبير العائلة. كما أنشأت "المحاكم الشّرعيّة في بيروت" لجان "إصلاح ذات البَيْنِ" لمحاولة التّوفيق بين الزّوجين عند طلبهما الطّلاق.

ومن الأمور التي اهتمّ بها المسلمون، قديماً وحديثاً، هي إقامة أوقاف خاصّة بمشكلات الأُسَر، ومن هذه الأوقاف ما يلي:

1 – استقبال الزّوجة الغاضبة من زوجها في مكان مخصّص لذلك، والاهتمام بأوضاعها إلى حين إتمام الصّلح بينها وبين زوجها. وتقوم بعض "الجمعيّات الأهليّة غير الإسلاميّة" في "لبنان" ببعض هذا العمل، حيث تقوم باستقبال "النّساء المُعَنَّفات" في أماكن خاصّة لحمايتهنّ من عنف أزواجهنّ تجاههنّ.

2 – تأمين الحليب إلى الأطفال الرُّضَّع.

3 - رعاية اليتامى.

4 – رعاية ذوي الاحتياجات الخاصّة (المعاقون).

5 – رعاية المرضى والمسنين.

6 – معالجة المدمنين على شُرب الخمور، وتعاطي المخدِّرات، الذين يشكِّلون عبئاً ثقيلاً على أُسَرِهِم، وعلى المحيطين بهم، وعلى مجتمعهم في آنٍ معاً.