الصورة
السنن الإلهية في بناء الأمم والحضارات

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ورقة الأستاذ الدكتور عبد الله الكيلاني 

لليوم العلمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي 

السنن الإلهية في بناء الأمم والحضارات

 

الحمد لله الذي أرشد  عباده لسبل التمكين فقال جل ذكره " نَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا " الكهف: 84 ،   والصلاة والسلام  على سيدنا محمد الذي أقام أمة الإسلام وأكمل الله به بناء النبوة ، وعلى آله وصحبه أجمعين

تتناول هذه الورقة موضوع السنن الألهية في بناء الحضارات بدراسة آيات القرآن الكريم في الموضوع وقد جعلتها على مسألتين :

المسألة الأول تناولت  الـتأصيل الشرعي لأهمية بناء الأمة ، ، واتساع مفهوم  الأمة للتنوع والخلاف . 

المسألة الثانية سبل بناء الأمة، وعرضت فيها ثلاثة سبل هي: بناء النفس ،وبناء المنهجية العلمية، والأخذ بالطريقة المثلى لبناء الأمم  ويتفرع عن كل سبيل فروع تفصيلية :

المسألة الأولى التأصيل الشرعي لأهمية بناء الأمة 

بقصد بالتأصيل  أن نجد للفكرة أصلا من الأدلة الشرعية كالقرآن الكريم والسنة النبوية ويمكن أن نؤصل لأهيمة بناء الأمة بعدة أدلة 

في القرآن الكريم دعوة لتعاون وتكتل الجماعة المؤمنة: (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92]، (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون: ٥٢].

 ومن الأدلة أيضا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٨﴾) [المنافقون: ٨]، فهذه الآية مثلما أنها تقرر حقيقة أن العزة للمؤمنين، فهي أيضا تكلف المؤمنين بواجب أن يكونوا أعزَّاء وهناك حديث بهذا المعنى: "لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قالوا: يا رسول الله, وكيف يذلّ نفسه؟ قال: “يتعرّض من البلاء لما لا يطيق". ( رواه الترمذي:  تحقيق احمد شاكر برقم  : 2254 )فقد يتحقق الذل بجهد فردي حينما يعرض نفسه للبلاء، كما ان الجماعة يمكن ان تذل نفسها إذا لم تتوحد أمة واحدة فلا تعود قادرة على  تحصين جبهتهتا الداخلية أو الخارجية  الخارجية وتفتك بها  عوامل الوهن.  

ومن الأدلة: النصوص  الآمرة بالاعتصام بحبل الله وبالتمسك بالجماعة كقوله تعالى  وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ( أل عمران  :103) ، 

والنصوص الآمرة بولاية المؤمنين : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ التوبة : 71 

فهذا الأدلة بمجوعها تؤصل لأهمية وجود جماعة مؤمنة معتصمة بحبل الله واتخذت من قيم القرآن مرجعا قيما ، وهذا هو مفهوم الأمة 

ثانيا : الأدلة من القواعد المصلحية   فأهمية وجود الأمة أولا ثم وجود مؤسسات تمثل الأمة يأتي من أنَّ الأمة هي المكلفة بإقامة عدد من الواجبات شرعية وهذه الواجبات لا يمكن أن تتحقق على الكمال بجهد فردي، فتحقيق مفهوم العزة التي وصف الله بها عباده المؤمنين لا يتحقق من غير وجود أمة مؤمنة تملك مؤسسات الدفاع عن نفسها وإثبات مكانتها الحضارية والإنسانية وقيامها بواجبها الدعوي ،  لا سيما أنَّ خصوم المشروع الإسلامي يتكتلون وينسقون جهودهم ، هذا ما أشارت له الآية القرآنية: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٧٢﴾ َالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴿٧٣﴾) [الأنفال: 72-73]، 

لماذا تكن فتنة؟ لأن الطرف الآخر يتكتل يخطط وينسق ويتبادل المعلومات ويخترق ويشتري الذمم ويفسد ويبحث عن نقاط الضعف ويشتت الجهود، ليتمكن  م أن تحقيق أهدافه، فلا بد حتى تحافظ وجودك وتحفظ نفسك وتدافع عن نفسك أن تنسق جهودك مع المؤمنين فهذه الفكرة الأولى لأهمية بناء الأمة . 

 

بناء الأمة يكون بالاتساع للتنوع والاختلاف 

الأمة في أصل معناها جماعة اتحدت على جامع ، والأمة المسلمة هي التي آمنت بالبينات التي جاءت بها النبوات " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ " (سورة الحديد 25) ،واتفقت الجماعة على قيم الأنبياء  مرجعا لحياتها مثلما قبلت الميزان الذي نزل به الأنبياء " وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (سورة الحديد 25) 

وهذا الاتفاق لا يعني عدم وجود تنوع في الفهم للنص، وتنوع في تقدير المصلحة ،وتنوع في ادراك تحقق مناط النص في الواقعة ،فضلا عن اختلاف الميول والرغبات وطرق التفكير؛ بما يستدعي ان يستع مفهوم الأمة لاستيعاب التنوع الفكري، والمذهبي، والملي، فضلا عن الاتساع للتعاون مع على جوامع مشتركة ومصالح إنسانية مع البشر كافة انسجاما مع الميزان القرآني للتنوع "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " 

ومن هنا لا بد أن نعالج في  مرجعية بناء الامة بعض المفاهيم الأصولية التي تطرق لها الأصوليون قديماً، مثل هل الحق متعدد، أم أنه واحد، وينبني عليها موقف الدولة من الحريات الفكرية وحدود هذه الحرية ، وهل تحمل الدولة الناس حملا على موقف عقدي واحد وموقف سياسي واحد ؛ أم يتسع الفضاء السياسي والعقدي والفكري  داخل الأمة  لاختلاف وجهات النظر سواء قلنا أنها محقة أم مبطلة، مع الاتفاق على قواسم مشتركة، تمثل اطار الأمة المتسع للمتنوعين في المذاهب والأفكار والاختلافات، فهذه المسألة نجد ممن تصدوا لها الإمام الغزالي في عدد من فتاواه، فتجده يقرر أنَّ كل مجتهد مصيب وهذا خلاف الذي يفتي عليه الجمهور، فالراجح عند الجمهور  أنّ كل مجتهد له نصيب من اجتهاده وله نصيب من الصواب والخطأ، لكن فتوى الغزالي هذه التي تقول كل مجتهد مصيب  تخدم فكرة تقبل التنوع ، فما دام الكل مصيب فله الحق في التعبير  شرط التزام المنهجية الصحيحة في الفهم والاستدلال ويبقى البحث في ترجيح المسألة حق لكل مجتهد لكن الفكرة أنه إذا أردنا أن نبني أمة من القضايا فلا بد نتصدى لمعالجة  إلى مدى نتقبل التنوع والاختلاف الفكري.

 

"أمة فاستبقوا الخيرات "في مقابل "الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا فليت منهم في شيء"  

وعليه ينبغي أن  نوظف هذا التنوع في استباق الخيرات لا في الفرقة المنهي عنها والقرآن الكريم أشار إلى نوعين من الاختلاف اختلاف اختلاف يقر بالتنوع ويوظفه لاستباق الخيرات ، واختلاف الذين تفرقوا شيعا .ويجد الدراس للتراث الإسلامي ان ضيق الرأي بالمخالف موجودة  داخل الفقه الإسلامي، حتى داخل المذهب الواحد، مثلا الجويني والماوردي وهما من أئمة المذهب الشافعي ، حينما يتكلم الجويني رحمه الله عن الماوردي ينقده نقدا شديدا وحينما يتعرض لفقيه آخر مالكي في كتابه غياث الأمم يقول هذا وباله أكثر من العصاة، لان العاصي مقر بذنبه، وهذا يظن نفسه مصيبا، فمثل هذه المناهج  والاتجاهات لا تساعد على بناء أمة، لأنه لا بد من قبول التنوع، وتقبل الاختلاف ما دام أنه منضبط بالأصول ، هذا الذي ينبغي التركيز عليه في مرجعية بناء للأمة  ، إذا كان هذا الاجتهاد منضبط بالأصول، فلا مانع بعد ذلك من ثمراته، وهذه نقطة تصدى لها عبد المجيد النجار في بحث عن ضوابط الحرية الفكرية حينما قرر أن الاجتهاد ليس عليه قيد إلا القيود المنهجية، بحيث يسير وفق منهجية صحيحة، فما دام المنهجية صحيحة فبعد ذلك لا بد أن يتسع رأينا للاختلاف ونقول لكل مجتهد نصيبه من الصواب والخطأ ونقبل اجتهاده، حتى لا تصبح الاختلافات الفكرية سببا للافتراق وتقسم الأمة وندخل في المشكلة التي ذكرها القرآن الكريم: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿٤﴾) [البينة: 4] فقد تكون الحقائق والبيانات بسبب خلل نفسي أو منهجي سببا للتفرق .

الأمر الآخر الذي أشار له الغزالي وهو موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال أنه واجب على الجميع حتى على العاصي، وضرب أمثلة لا تُقرّ، لكنه أراد أن يمثل، ونحن نريد أن نفهم الفكرة، أنه حتى لو كنت متلبسا بالمعصية فهذا يجعلك آثم لتلبسك بالمعصية ولا يسقط عنك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكأنه يريد أن يحرك في الناس الشعور الإيجابي، وأن يخرجوا من حال السلبية وهذه نفطة مهمة في بناء الأمة.

 وعليه لابد أن تتسع الأمة للمخالفين مذهبيا وعقديا ،فنجد داخل المجتمع الإنساني يوجد المسلم والكتابي والملحد فأنت في مجتمع لك خصوصية كمسلم ولكنك أنت ضمن هذا المجتمع تريد أن تستوعب أفراد المجتمع وتبحث عن قواسم إنسانية مشتركة تتعامل معها وتلتقي عليها. 

ونشير هنا إلى أن من الأسباب الموجبة  لبناء الأمة حفظ وجودها المعنوي في مواجهة من تحديات على مستوى العلاقات الدولية، مثلا عندنا الاتفاقيات الدولية التي تتعلق  بحق الأمة في أوطانها ومقدساتها ، وتتعلق بحقوق الإنسان بحقوق الإنسان إذا لم يكن لنا وجود منظم في منظمة الأمم المتحدة على مستوى الدول الإسلامية ستفرض علينا اتفاقيات ونتلقى صفعات ، وسنطالب بتعديلات تشريعية في قانون الوطني  وكذلك على مستوى العلاقات الدولية إذا لم يكن لنا وجود منظم ستعرض تعديلات في العلاقات الدولية تمس مقدساتنا وحقوقنا ولن نستطيع أن نواجهها إلا أن بتنسيق الجهود مع الدول المسلمة والشعوب المسلمة والشعوب المناصرة لقضايانا فكل ذلك يمكن أن ندخله ضمن مفهوم مبررات وأسباب بناء الأمة من أجل الحفاظ على الوجود ودفع المواجهات والخطط التي تحاك لنا.

 

 

المسألة الثانية : سبل بناء الأمة 

   يجد المتأمل في القرآن الكريم أن الآيات المتعلقة بموضوع الدراسة السنن الإلهية في بناء الأمم والحضارات على أنواع :

النوع الأول : بناء النفس التي وكلها الله تعالى بعمران الكون على مراده سبحانه لتكون جديرة بالخلافة ،  ومما يتفرع عن بناء النفس :

-  بناء الرؤية القرآنية للغاية من وجود الإنسان: إني جاعل في الأرض خليفة 

-ثم بيان أن التغيير يبدأ  بتغيير ما في الأنفس من أفكار وقيم :إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم،

- وتقديم مفهوم جديد للبر والتدين :ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن من أمن بالله 

-وبيان أن المغايرة في حقوق الأمة مغايرة صورية  فحين أمر الله بالسلام على أهل البيوت قال  فسلموا على انفسكم والمقصود على الساكنين ، وحين 

  بين الله حرمة أكل أموال الغير قال ولا تاكلوا أموالكم فأضاف المال الى الآكلين وحين نهي عن السفه قال ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم وحين حرم الفتل قال لا تقتلوا أنفسكم، لأن ما  يلحق الغير من خير أو شر يعود لشي جامع مشترك 

وفي هذا المعنى يقول ابن عاشور وَهَذَا كَثِيرٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ وَنُكْتَتُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمُغَايَرَةَ فِي حُقُوقِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ مُغَايَرَةٌ صُورِيَّةٌ وَأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَصْلَحَةُ الْجَامِعَةُ أَوِ الْمَفْسَدَةُ الْجَامِعَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَة: 188] وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الْحَمَاسِيِّ الْحَارِثِ بْنِ وَعْلَةَ الذُّهْلِيِّ:

قَوْمِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي ... فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي

 

 

فَلَئِنْ عَفَوْتُ لَأَعْفُوَنَّ جَلَلَا ... وَلَئِنْ سَطَوْتُ لَأُوهِنَنَّ عَظْمِي (التحرير التنوير الدار التونسية ، 1984، 1: 585 ) وتدل اشعار العرب على  الوعي لفكرة المصلحة الجامعة إلا أنها كانت مصلحة قبيلة  لا تتسع لمفهوم الأمة المستوعب للقبائل  فجاء القرآن ليؤسس لمفهوم  القطب الذي يستوعب القبائل وسائر صور الانتماء الفطري 

 لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

ولذا حرص القرآن على إخراج المكلف من حالة الأنانية وبنى قيم الشعور بالمسؤولية وحارب صور التخلي عن الواجبات فترى في القرآن يجدد مفهوم البر: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ  ويؤسس لمفهوم جديد يقوم على شعور بالمسؤولية تجاه افراد الأمة ومشاركة بالتبعات " ولكن البر وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا  ..." البقرة :177 

كما  نقد القرآن الكريم السلوك الأعرابي الذي يتخلى عن البذل كما نقد سلوك المنافقين من أهل المدينة وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ

 وهذه الأمراض الاجتماعية التخلي عن البذل والهروب من الالتزامات ممثلة بالإعرابية  والمنافق عوائق وموانع في بناء الأمة 

النوع الثاني بناء المنهجة العلمية 

ويندرج ضمن هذا المبدأ عدد من الآيات التي تهدف إلى إحداث التغيير وبناء المنهجية العلمية  ومن مخرجاتها بناء لعقل  التسخيري الذي ينظر في الأسباب ثم يعمل بمقتضاها

وهذا المنهج  العلمي قادر على النطر المصلحي ونقد السلوك العاري عن المصلحة ومن هذا الباب الدعوة لمراجعة ناقدة للموروث ونقد الأفكار السابقة وممارسة التفكيك للأفكار كما في عدد من الآيات :إنا وجدنا أباءنا ..قل أولو جئتكم بأهدي مما وجدتم عليه آباءكم 

ومن هذا النوع نقد العادات السلبية التي لا تحقق مصلحة الجماعة  كقوله تعالى  :"ما جعل من بحيرة " فكان من عادات العرب أن يسيبوا الأبل في الصحراء لا يركبها احد ولا ينتفع منها أحد بوصفها صدقة لله فألغى الله هذا التعبد الذي يعطل الثروة وأقر الزكاة والصدفة التي تعود على الجماعة بالخير وتحارب الفقر 

ففي ظل الجاهلية كانت ثروات الجماعة مسيبة في الصحراء وإلى جوارها فقراء وأسر تقتل أولادها من إملاق ، فألغي القرآن هذه المظاهر وأحل مكانها عبادات تحقق التنمية والعمران وتحارب الفقر 

 

النوع الثالث  الأخذ بالطريقة المثلى والتجربة الأفضل ، وهذا الأمر مبني على النوع الأول وهو بناء النفس والنوع الثاني وهو بناء المنهجي ومؤسس عليهما : وتجد من تطبقاته 

-الدعوة للنظر في أحوال من سبق والتنبيه لأسباب الهلاك 

-وعدم الاغترار بالقوة المادية المجردة عن الأخلاق  مع الـتاكيد على أهمية القوة الأخلاقية فقد ورد الأمر بالسير في الأرض في أربعة عشر موضعا  كما وردت الدعوة للنظر والتدبر في عاقبة المكذبين في اكثر من سورة كآل عمران والأنعام والنمل والعنكبوت والروم  ويوسف وغافر :

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ آل عمران :137 

 قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) الأنعام 

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) النمل 

بما يدل على أن وجود سنة الهية بأهلاك الأقوام الذين كذبوا الأنبياء والاقوام الذين أجرموا 

وتجد تفصيلات في أسباب الإهلاك كالتطفيف في المكيال وقطع السبيل وفعل الفاحشة والإجرام الدولي  في الأرض سبب سنة العقوبة 

كما تجد تأكيدا لإهلاك الله تعالى للظالمين 

-وهناك آيات تحدثنا على أسباب حرمان المسلمين من النصر وهذه الآيات تكشف عن وزوال التمكين بعد حدوثه  وموانع التمكين قبل حدوثه كما في قوله تعالى : " وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: آل عمران  (152) 

فتأمل في قوله سبحانه ثم صرفكم عنهم لبيتليكم من بعد ما اراكم ما تحبون "، والسب مخالفة امر النبي صلى الله عليه وسلم "فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ "آل عمران :153  :أي بسبب غمكم للنبي حرمتم النصر بعد ان رأيتم طلائعه  

-وبالمقابل نجد أيات تحدثنا على أسباب التمكين كقوله تعالى في قصة ذي القرنين إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا: (85) (سورة الكهف: 84-85) ومعنا اتيناه من كل شيء سببا أي علمناه فاخذ بهذا العلم وطبقه لتحصيل التمكين 

وفي قصة ذي القرنين نموذج لطريقة تجاوز الأمم المستضعفة لتسلط المتسلطين الذين يحرمونها حقوقها بأن تمتلك هذه الشعوب القوة فأعينوني بقوة 

ومفهوم القوة في الآية كما تدل عليه سورة الكهف أنه مزج الحديد بالنحاس 

 وهنا تكشف لنا الآية عن أسباب التمكين بالعلم والعلم له طرق من الملاحظة والتجربة ولا بد من الإنابة والاستعانة بالله تعالى 

وتجد في قصة ذي القرنين إشارة لأهمية القوة : فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما 

القوة في علم السياسية تطلق بعدة معان القوة العسكرية والاقتصادية والدينية 

وهذه القوة لها تاثير في اتخاذ القرار والتمكين 

فإذا كان المجتمع مهمش لا يملك قوة اقتصادية أو سياسية فلا يمكن بناء امة من أفراد مهمشين 

ولذا من أسباب بناء الأمة التمكين للأفراد 

 

والحمد لله رب العالمين